حروب الحكامية مع الإدريسي
تمهيد:إنتهى حكم الأشراف آل خيرات في أبي عريش سنة 1262هـ و كان بداية الحكم المباشر للأتراك في المنطقة واستمر إلى ظهور دعوة الإدريسي. و كان مركزهم في مدينة جازان الساحلية و لكن حكمهم كان لا يتعدى "أول السبخة" كما قال العقيلي. فقد كانت الدولة العثمانية في مطلع القرن الرابع عشر في حالة إحتضار. في ظل هذا التفلت و عدم وجود إدارة حازمة تضبط البلاد و تقيم الشرع, كان المخلاف في حالة فوضى تسودة العصبيات القبلية و الفتن فكانت المنطقة تعاني من عدد من الحروب القبلية مثل:
1- نشبت فتنة بن قبائل الشقيق و المنجحة.
2- بين قبائل بني شعبة و عبس.
3- بين أهل بيش والسادة.
4- بين الجعافرة و أهل صبيا.
5- بين أهل أبي عريش وأهل ضمد ثم بين أهل أبي عريش والمسارحة.
6- بين أهل الحسيني و عبس.
7- بين حكامية المضايا و الخرم.
8- بين سفيان و الحرّث.
9- بين المسارحة و بني شبيل و بين المسارحة والحرّث.
و كانت القبائل تقعد مع بعضها صلح هدنة مؤقتة بضمانة أشخاص لهم اعتبار قبلي. ولكن سرعان ما تدب الفتنة مرة أخرى و تعود القبائل إلى الفوضى من جديد. أما الأتراك فلهم حامية صغيرة في جازان لا تستطيع حماية نفسها و لهم حاكم صوري في صبيا يقبع في قلعة من قلاعها لا يتعدى حكمه أسوار القلعة.
في خضم هذه الفتن والملاحم, ظهرت شخصية سياسية محنكة الا و هو محمد بن علي الإدريسي.
زمن قدوم الأدراسة:أحمد بن إدريس الحسني و هو جد الأدارسة بالمخلاف, قدم من القيروان في بلاد المغرب العربي وقد أتصل بشريف مكة و أقام في مكة فترة آخذاً عن علمائها ثم عزم التوجه إلى اليمن فركب البحر من الليث و نزل في بندر جازان في طريقة إلى الحديدة و كان منتهى مسيرته زبيد فأخذ عن علمائها و مكث في زبيد فترة متجردا للوعظ والإرشاد ثم ارتحل إلى مدينة صبيا و كان وصوله إليها في شهر رمضان من عام 1245 هـ فأقام بها للوعظ والإرشاد إلى أن أدركته المنية عام 1253 هـ.
علي بن محمد بن أحمد بن إدريس:أدرك جده و طلب العلم على شيوخ وقته و خلف والده في مركزه الروحي و كان قليل الإختلاط بالناس, توفي عام 1324هـ.
محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس:هو مؤسس الدولة الإدريسية, ولد بصبيا عام 1293 هـ و نشأ في حجر والده على أحسن الأحوال ثم حفظ القرآن غيباً ثم أخذ في فنون العلوم الدينية واللغوية على يد العلامة سالم بن عبدالرحمن باصهيّ ثم خرج إلى مدينة أبي عريش فقرأ بها على العلامة إسماعيل بن حسن عاكش الحكمي و تزوج هناك ثم رجع إلى صبيا فمكث بها مدة ثم قصد الديار المصرية طالباً التوسع في العلم فمكث بالجامع الأزهر مدة طويلة حتى برع و تظلع من منطوقها والمفهوم فرحل إلى السودان و تزوج هناك وولد له.
قيام دولة الإدريسي:كان بعد أبيه دأبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والشعب في غاية الهمجية لعدم الحزم من الحكومة التركية و أمرهم مقصور على المرافئ البحرية و في السراة. ففي سنة 1326هـ بدأت دعوة الإدريسي بصلح بين أهل صبيا و الجعافرة كان هو الضامن لهذا الصلح ثم بعد ذلك استمال قبائل صبيا والحسيني و الجعافر بأن يبايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكانت هذه بداية دولته و التي اقتصرت على صبيا و مخلافها. ثم بد ذلك اتصل بإيطاليا و استطاع ان يعقد تحالف معها على أن يقاتل العثمانيين, فقد كان على قدر كبير من الدهاء و الحنكة السياسية و كانت طموحاته كبيرة و همته عالية. انتشرت بسرعة أخبار قيامه بدعوته في صبيا و كيف استطاع بحكمته أن يطفئ نار الفتنة بين قبائل صبيا والمخلاف الشمالي فكان توقيته مناسباً و دعوته لاقت صدى واسع في المخلاف السليماني لأن الناس قد ضاقت ذرعاً من الحروب والفتن و إنعدام الأمن لفترة ليست بالوجيزة فقد استمرت قرابة الخمسين عاماً. فقد توافدت عليه الجموع من كل صوب و كان يستقبلهم بالإكرام و الوعظ و الإرشاد فسلب الألباب ببلاغة لفظه و سحر بيانه و قوة منطقه و نبرات صوته الجهوري فمالت له القلوب ورأوا فيه المصلح والمنقذ لهم فانضمت له قبائل حلي و قبائل ضمد وأبوعريش و الحكامية والمسارحة و بنوشبيل. و كان يعد العدة للخروج على الأتراك و طردهم من المنطقة فلاقت هذه الثورة التأييد من القبائل لأن العرب بطبعهم لا يحبون حكم الأجنبي.
ثورة الإدريسي ضد الأتراك (معركة الحفائر):أحست الدولة العثمانية بحركة الإدريسي وأدركت خطورتها لسيادتهم في المنطقة و ما قد تترتب عليها من التبعات والعصيان. فأرسلت الدولة حملة قوية بقيادة محمد راغب و خولته أولاّ مكاتبة و مفاوضة الإدريسي عسى أن يرضخ تحت تأثير الحملة.
وصلت الحملة إلى جازان و أخذ قائدها في مراسلة الإدريسي فوجد أمامه شخصية تفوقه دهاءا و شجاعةّ, و يقول البعض ممن أدركوا ذلك العهد: إن الإدريسي استطاع أن يشتري ضمير ذلك القائد, الذي بعد الهزيمة فر إليه.
أخذ القائد في مفاوضة و مكاتبة الإدريسي, الذي كان على علم تام بالحملة و مهمة قائدها فما أخذت في النزول حتى أصدر أوامره لإستدعاء رجال القبائل من حلي إلى بني شبيل, كما استدعى قائده في المنطقة الشمالية حمود سرداب في العودة مع أغلب قواته فوافته القبائل إلى "الحفائر" فأحدقت بجازان في شبه نصف دائرة من (تل المنجارة) إلى (رأس السويس) من الجنوب على الترتيب الآتي:
1- بني شبيل و المسارحة والحكامية من طرف رأس السويس إلى قرية الكربوس في الجنوب الشرقي.
2- قبائل وادي جازان الأعلى والأسفل من الكربوس إلى الحفائر.
3- ضمد وصبيا و المخلاف من الحفائر إلى رأس المنجارة في ساحل البحر.
و خرج بنفسه من صبيا ورابط بجيش إحتياطي في قرية (الغراء) وأناط قيادة الميدان ب(محمد طاهر رضوان الكناني) أحد رجاله من أهل صبياء.
المعركة: و عند فشل المراسلة, صدرت الأوامر على القائد التركي بالزحف، فأخذ في الاستعداد للزحف على كره, وأخذ الجيش الإدريسي في تشديد نطاق الحصار و منع الماء عن جازان و كل ما يرد إليها براً، فتضايق الجيش التركي واشتد عليه وقع الحصار و منع الماء فأخذت البواخر التركية في تزويده بالماء من (جزيرة فرسان) ورحل السكان إلى فرسان و غيرها بحرا, و في فجر يوم الإثنين الموافق 10 جمادى الأولى عام 1329هـ زحف للهجوم تحميه نيران المدافع من القلاع والبواخر التركية.
التعبية:تقد الجيش التركي تحت حماية نيران المدفعية في ثلاث اتجاهات:
1- الجناح الأيمن و وجهته طريق (المضايا) في الناحية الجنوبية.
2- القلب و اتجاهه (الحفائر) – آبار الماء.
3- الجناح الأيسر واتجاهه (رأس المنجارة), طريق صبيا.
تقدم الأتراك تحت غبشة الفجر, فما انحسر الظلام إلا و قد وصلت مقدماتهم إلى أواخر السباخ التي هي أرض مكشوفة لا شجر و لا آكام يتوارى خلفها, فأطلقوا نيران رشاشاتهم و بنادقهم متقدمين في بسالة المستميت على الجيش الإدريسي الآخذ مواقعه في الآكام والروابي و شجر الحمض المشرف على السباخ المكشوفة.
وقد أصدر القائد الإدريسي أمره بواسطة منادين على الخيل والبغال تنادي في صفوف الجيش من أول الفجر بعدم إطلاق الرصاص حتى يصبحون منكم على مقدار (معاد) و هو مقاس محلي معروف يقدر بخمسين باعاً.
زاد في جرأة الأتراك توقف الجيش الإدريسي فوالوا تقدمهم - و كان القلب أسرع الفرق تقدما – يتقدمه ضابط تلقبه القبائل باسم (مشرم) فكان يسير أمام الجيش بكل بسالة حتى أضحو على مسافة ستين متراً تقريباً، فأطلق أحد رجال القبائل الأشاوس عليه رصاصة خر على أثرها صريعاً، وانطلقت عليهم النيران في شدة لا تكاد أن تخطئ الرصاصة هدفها, وانهزم الأتراك, ويقال: إنه صدر أمر القائد لهم بالتراجع (النفير) يبلغهم أمر التراجع السريع و طرق التراجع مكشوفة والقبائل أخذتها نشوة النصر فاندفعت تتعقب فلولهم في ضراوة و إقدام فتغطت السباخ بجثثهم و يقدر عدد القتلى من الأتراك ألفين و خمس مئة قتيل. و تحت حماية نيران مدفعية القلاع والبواخر تمكنت بقية الجيش من الدخول إلى جازان والتحصن في جبالها و استحكاماتها و عزز بمدد من طريق البحر، و بقي الجيش الإدريسي في مراكزه يوالي الغارات الليلية على مراكزهم.
بعد وصول عزت باشا إلى اليمن واتفاقه مع الإمام، وكان عزت باشا قد عُين قائد عام للقوات في جنوب الجزيرة العربية, فأصدر أمره بإرسال حملة إلى المخلاف السليماني بقيادة "أميرلاي راغب بك" قوامها أربعة آلاف جندي نظامي, مجهزة تجهيزاً حديثاً بالمدافع والرشاشات. تحركت بحراً من ميناء الحديدة في البواخر و كان المقرر أن تكون تحت قيادة محمد علي باشا الذي وصل على رأس قوة من الأستانة لقمع حركة الإدريسي، إلا أنه لم يتم استعداداته، فكأن القائد العام عزت باشا رأى أن المهلة تنتهي بذلك العدد من الجيش بقيادة الأميرلاي راغب بك.
و بوصولها إلى جازان, أصدر الإدريسي أمره باستنفار قبائل المنطقة لضرب نطاق الحصار و قطع الماء عن المدينة, والجيش القادم إليها. وتحت ضغط الحصار المحكم اضطر الجيش إلى استعمال المياه الإحتياطية في البواخر حتى استنفذوها و لم يبق أمامهم خيار إلا ركوب البحر والعودة إلى الحديدة، أو الخروج لطرد القبائل والاستيلاء على مورد المياه المسمى "الحفائر" على مسافة خمسة أكيال عن المدينة.
و لم يطل أمر حصار جازان فقد وصلت أوامر الحكومة التركية لحملة جازان بالجلاء إلى القفنذة بناءاً على قيام الأسطول الإيطالي بحصار و ضرب المراكز الساحلية – فبقاء القوات التركية في جازان المحصورة براً بالجيش الإدريسي مع ضرب الأسطول الإيطالي عليها بحراً معناه إبادتها فرحلت الحملة بحراً، و أخذت ما خف من الذخيرة والعتاد والمؤن وأبقت الكثير منها و اضرمت النار في البعض عند طلوع آخر دفعة فشعر الجيش الإدريسي بالدخان يتصاعد, و على الأثر وصله الخبر اليقين بالجلاء فدخل المدينة واستولى على كل ما وجده، ودخلها الإدريسي نفسه بعد ذلك.
و بذلك كان جلاء الأتراك من المنطقة و ترتب على ذلك قوة شوكة الإدريسي و توحد قبائل المخلاف السليماني تحت راية واحدة.
المصادر:
1- "تحفة القارئ والسامع في اختصار تاريخ اللامع" تأليف القاضي عبدالله بن علي العمودي رحمه الله, تحقيق و تقديم الدكتور عبدالله بن محمد أبوداهش.
2- "تاريخ المخلاف السليماني", للعلامة محمد بن أحمد العقيلي رحمه الله, الجزء الثاني, الطبعة الثانية.
**ملاحظة: الصور المضافة ليست للأحداث نفسها ولكنها تحكي واقع الحال