المسلك الأول من القرآن الكريم
الأصلاب والبطون التي حملته r
هم المقصودون بالأمة المسلمة في دعوة إبراهيم عليه السلام
1 - قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } [البقرة : 127 - 128].
2 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام قوله { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [البقرة : 129].
3 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام أيضًا : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35].
4 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام : { اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [إبراهيم : 40].
يدل قوله تعالى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } [البقرة : 128].
على أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد دعا ربه أن يجعل من ذريته من ولده إسماعيل عليه السلام أمة مسلمة إذا كان المقام هو الدعاء لنفسه ولإسماعيل عليهما السلام على ما رفعا من قواعدِ البيت فتعقيبه على ذلك بقوله : { وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } [البقرة : 129]. يوضّح أنّ المراد هم ذريّة إسماعيل دون سواه من ولد إبراهيم، كم يوضّح أنّه قد دعا بأن يبعث الرسول من هذه الأمة المسلمة.
ولا يتصوّر بعثته من الأمة المسلمة من ولد إسماعيل إلّا إذا كان دين إبراهيم سيمتدفي القرون التي بينه وبين بعثة نبينا محمد r، وأن الزمان لا يخلو من قوم مسلمين منهم إلى البعثة المحمدية يدينون بملة إبراهيم عليه السلام في التوحيد الخالص ولا يعبدون الأصنام.
وقد أخرج ابن المنذر في « تفسيره » بسند صحيح عن ابن جرير في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام { اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [إبراهيم : 40]. قال : لا يزال من ذرية إبراهيم عليه السلام ناسٌ على الفطرة يعبدون الله.
وحيث وُجِدَ في ذرّيّة إسماعيل عليه السلام من عبد الأصنام، فواضحٌ أنّ إبراهيم قد خصّ بدعائه أمةً من ذريّته تبقى فيهم ملته ولا تندرس على تطاول القرون إلى أن يبعث الله رسوله محمدًا r منهم.
ولما لم يكن ممكنًا بعثته من جميع أعراق ذريته كان أولاهم باحتسابه منهم هم آباؤه وأجداده وأمهاته فيكون منهم نسبًا قريبًا وملة...
قال السيوطي في « الحاوي » : (( كل ما ذكر عن ذرية إبراهيم عليه السلام فإن أولى الناس به سِلْسِلَة الأجداد الشريفة الذين خُصُّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوة واحدًا بعد واد فهم أولى بأن يكونوا هم البعض المشار إليه في قوله : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [إبراهيم : 40]، ولما وضح أن المخصوص بالدعاء هم آباؤه وأجداده r دون عموم الذرية.. قال سُفْيَان بن عُيَيْنَةَ لما سُئِلَ : هل عَبَدَ أحدٌ من ولد إسماعيل الأصنام ؟ قال : لا ألم تسمع قوله تعالى { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35]. كما رواه ابن أبي حاتم.
وكذلك أخرج ابن جرير في تفسيره عن مجاهد أنه قال : (( استجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحدا من ولده صنمًا بعد دعوته )).
ولا ينطبق هذا إلاّ على من خص بدعائه أن تبقى فيهم ملته ولا تندرس من آبائه وأجداده r، ومن نذر قليل خصّهم الله بعنايته ممّن لم يبدلوا ولم يحرفوا، وكأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما أراه الله من ملكوت السموات والأرض شاهدَ ذلك النورَ المحمديَّ في البطون والأصلاب فئات من صلبه طلب لهم الإسلام والانقياد الذي طلبه لنفسه إلى أن يظهر ذلك النور الإلهي الذي أراه الله إياه في البطون والأصلاب ليظهر ذلك الرسول على ما تقتضيه حكمته تعالى، وقصده الخاص من جعله سببًا لمعرفته وشهوده بخلق جسمه الطاهر من أطهر الأعراف البشريّة، وأطيب الأنساب وأنفس جواهر النطف الناشئة بين الآباء والأمهات، فيحيي الله به ملة إبراهيم في توحيده وشعائره مما أصابهم من التحريف، وتبقى إلى يوم القيامة كما قال تعالى { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [الزخرف : 28]. إلى أن قال : { حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ } [الزخرف : 29].
روى عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [الزخرف : 28]. قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله، والتوحيد لا يزال في ذريته من يقولها بده.
ونقل عبد الرزاق في « تفسيره » عن ابن معين عن قتادة في الآية قال : (( الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده )).
وأخرج ابن المنذر، قال ابن جريج : (( الآية في عقب إبراهيم لم يزل في ذريته من يوحد الله ويعبده بقوله : لا إله إلاّ الله )).
قال ابن المنذر وقول آخر : (( فلم يزل ناس من ذريته على الفطرة يعبدون الله حتى تقوم السّاعة )).
وهكذا اختار الله لنبيّه آباءه وأمهّاته من طاهر إلى طيب، ومن طيّب إلى طاهر، إلى أن أوصله الله إلى صلب عبد الله بن عبد المطّلب، ومنه إلى رحم أمه آمنة، فأخرجه إلى الدّنيا وجعله سيّد المرسلين وخاتم النبيّين ورحمةً للعالمين.
وهل يعقل أن يقرَّ الله الرّوح الطّاهر الطيّب بأصلاب المشركين وأرحام المشركات ويجعلها أصله في التّكوين والتّصوير وهو القائل { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة : 26]. والقائل أيضًا : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [النور : 26].
وإذا كان تخصيص هؤلاء بهؤلاء واردًا للمناسبة في التّزاوج بين الفريقين، فأولى أن تكون المناسبة بين النّطف التي تتكوّن في الأصلاب وتستقر في الأرحام، فلا يتولّد الطيّب الطّاهر من مشركين نجسين، وصدق الله العظيم : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [النور : 26].
*********
يتبع ...